فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الثالثة:
قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} وُجُودُ الْبَنِينَ يَكُونُ مِنْهُمَا مَعًا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ تَخَلُّقُ الْمَوْلُودِ فِيهَا، وَوُجُودُهُ ذَا رُوحٍ وَصُورَةٍ بِهَا، وَانْفِصَالُهُ كَذَلِكَ عَنْهَا، أُضِيفَ إلَيْهَا، وَلِأَجْلِهِ تَبِعَهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَصَارَ مِثْلَهَا فِي الْمَالِيَّةِ.
سَمِعْت إمَامَ الْحَنَابِلَةِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ أَبُو الْوَفَاء عَلِيُّ بْنُ عَقِيلٍ يَقُولُ: إنَّمَا تَبِعَ الْوَلَدُ الْأُمَّ فِي الْمَالِيَّةِ، وَصَارَ بِحُكْمِهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ انْفَصَلَ عَنْ الْأَبِ نُطْفَةً لَا قِيمَةَ لَهُ، وَلَا مَالِيَّةَ فِيهِ، وَلَا مَنْفَعَةَ مَثْبُوتَةَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا اكْتَسَبَ مَا اكْتَسَبَ بِهَا وَمِنْهَا، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ تَبِعَهَا، كَمَا لَوْ أَكَلَ رَجُلٌ تَمْرًا فِي أَرْضِ رَجُلٍ، فَسَقَطَتْ مِنْهُ نَوَاةٌ فِي الْأَرْضِ مِنْ يَدِ الْآكِلِ، فَصَارَتْ نَخْلَةً، فَإِنَّهَا مِلْكُ صَاحِبِ الْأَرْضِ دُونَ الْآكِلِ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهَا انْفَصَلَتْ مِنْ الْآكِلِ وَلَا قِيمَةَ لَهَا؛ وَهَذِهِ مِنْ الْبَدَائِعِ.
المسألة الرابعة:
فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {وَحَفَدَةً} وَفِيهَا ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ الْأَخْتَانُ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ الْأَصْهَارُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّالِثُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: الْخَتَنُ الزَّوْجُ، وَمَنْ كَانَ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِ.
وَالصِّهْرُ مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ مِنْ الرِّجَالِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهَا ضِدُّ ذَلِكَ؛ قَالَهُ ابْنُ الأعرابي.
الْخَامِسُ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْخَتَنُ مَنْ كَانَ مِنْ الرِّجَالِ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ، وَالْأَصْهَارُ مِنْهُمَا جَمِيعًا.
السَّادِسُ: الْحَفَدَةُ: أَعْوَانُ الرَّجُلِ وَخَدَمِهِ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَعَانَك فَقَدْ حَفَدَك؛ وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ.
السَّابِعُ: حَفَدَةُ الرَّجُلِ أَعْوَانُهُ مِنْ وَلَدِهِ.
الثَّامِنُ: أَنَّهُ وَلَدُ الرَّجُلِ وَوَلَدُ وَلَدِهِ.
المسألة الخامسة:
هَذِهِ الْأَقْوَالُ كَمَا سَرَدْنَاهَا إمَّا أُخِذَتْ عَنْ لُغَةٍ، وَإِمَّا عَنْ تَنْظِيرٍ، وَإِمَّا عَنْ اشْتِقَاقٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا}؛ فَالنَّسَبُ مَا دَارَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.
وَالصِّهْرُ مَا تَعَلَّقَ بِهِمَا، وَيُقَالُ أَخْتَانُ الْمَرْأَةِ وَأَصْهَارُ الرَّجُلِ عُرْفًا وَلُغَةً، وَيُقَالُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ: الْحَفِيدُ، وَيُقَالُ: حَفِيدُهُ يَحْفِدُهُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَكَسْرِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ إذَا خَدَمَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الدُّعَاء: وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ.
فَالظَّاهِرُ عِنْدِي مِنْ قَوْلِهِ: {بَنِينَ} أَوْلَادُ الرَّجُلِ مِنْ صُلْبِهِ، وَمِنْ قَوْلِهِ: {حَفَدَةً} أَوْلَادُ وَلَدِهِ.
وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ اللَّفْظِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا.
وَنَقُولُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا: وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا، وَمِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ، وَمِنْ الْبَنِينَ حَفَدَةً.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً، فَيَكُونُ الْبَنُونَ مِنْ الْأَزْوَاجِ، وَالْحَفَدَةُ مِنْ الْكُلِّ مِنْ زَوْجٍ وَابْنٍ، يُرِيدُ بِهِ خُدَّامًا يَعْنِي أَنَّ الْأَزْوَاجَ وَالْبَنِينَ يَخْدُمُونَ الرَّجُلَ بِحَقِّ قِوَامِيَّتِهِ وَأُبُوَّتِهِ.
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤنَا: يَخْدُمُ الرَّجُلُ زَوْجَهُ فِيمَا خَفَّ مِنْ الْخِدْمَةِ وَيُعِينُهَا.
وَقَدْ قَالُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يَخْدُمُهَا.
وَقَالُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يُنْفِقُ عَلَى خَادِمٍ وَاحِدَةٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ عَلَى قَدْرِ الثَّرْوَةِ وَالْمَنْزِلَةِ؛ وَهَذَا أَمْرٌ دَائِرٌ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّ نِسَاء الْأَعْرَابِ وَسُكَّانَ الْبَادِيَةِ يَخْدُمْنَ أَزْوَاجَهُنَّ حَتَّى فِي اسْتِعْذَابِ الْمَاء وَسِيَاسَةِ الدَّوَابِّ.
وَنِسَاء الْحَوَاضِرِ يَخْدُمُ الْمُقِلُّ مِنْهُمْ زَوْجَهُ فِيمَا خَفَّ وَيُعِينُهَا.
وَأَمَّا أَهْلُ الثَّرْوَةِ فَيَخْدُمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَيَتَرَفَّهْنَ مَعَهُمْ إذَا كَانَ لَهُمْ مَنْصِبٌ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا مُشْكِلًا شَرَطَتْ عَلَيْهِ الزَّوْجَةُ ذَلِكَ، فَتَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ أَنَّهَا مِمَّنْ لَا تَخْدُمُ نَفْسَهَا، فَالْتَزَمَ إخْدَامَهَا؛ فَيُنَفِّذُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَتَنْقَطِعُ الدَّعْوَى فِيهِ.
وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ لِمَا قَدَّمْنَاه.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: وَسَأَلْته عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} مَا الْحَفَدَةُ؟ قَالَ: الْخَدَمُ وَالْأَعْوَانُ فِي رَأْيٍ.
وَيُرْوَى أَنَّ الْحَفَدَةَ الْبَنَاتُ يَخْدُمْنَ الْأَبَوَيْنِ فِي الْمَنَازِلِ.
وَيُرْوَى أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: {وَحَفَدَةً} قَالَ: هُمْ الْأَعْوَانُ؛ مَنْ أَعَانَك فَقَدْ حَفَدَك.
قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَتَقُولُهُ.
أَمَا سَمِعْت قَوْلَ الشَّاعِرِ:
حَفَدَ الْوَلَائِدُ حَوْلَهُنَّ وَأُلْقِيَتْ ** بِأَكُفِّهِنَّ أَزِمَّةُ الْأَجْمَالِ

وَتَصْرِيفُ الْفِعْلِ حَفَدَ يَحْفِدُ كَمَا قَدَّمْنَا حَفْدًا وَحُفُودًا وَحَفَدَانًا.
وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: إنَّ الْحَفَدَةَ عِنْدَ الْعَرَبِ الْخَدَمُ، وَكَفَى بِمَالِكٍ فَصَاحَةً، وَهُوَ مَحْضُ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِ: إنَّهُمْ الْخَدَمُ.
وَبِقَوْلِ الْخَلِيلِ، وَهُوَ ثِقَةٌ فِي نَقْلِهِ عَنْ الْعَرَبِ؛ فَخَرَجَتْ خِدْمَةُ الْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ مِنْ الْقُرْآنِ بِأَبْدَعَ بَيَانٍ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ دَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُرْسِهِ، فَكَانَتْ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَهِيَ الْعَرُوسُ، فَقَالَ: «أَوَتَدْرُونَ مَا أَنَقَعْت لِرَسُولِ اللَّهِ؟ أَنَقَعْت لَهُ تَمَرَاتٍ مِنْ اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ».
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ».
وَهَذَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ: وَيُعِينُهَا.
وَفِي أَخْلَاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «كَانَ يَخْصِفُ النَّعْلَ، وَيَقُمُّ الْبَيْتَ، وَيَخِيطُ الثَّوْبَ».
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ يَعُودُ الْمَرِيضَ، وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ، وَكَانَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ عَلَيْهِ إكَافٌ مِنْ لِيفٍ».
وَقَالَ عَنْ عَائِشَةَ وَقَدْ قِيلَ لَهَا: «مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَعْمَلُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَتْ: كَانَ بَشَرًا مِنْ الْبَشَرِ، يُفَلِّي ثَوْبَهُ، وَيَحْلِبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ».
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: حَتَّى فِي وُضُوئِهِ؛ فَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ فِي لَيْلَةٍ كَانَتْ لَا تُصَلِّي فِيهَا، فَأَوَى رَسُولُ اللَّهِ إلَى فِرَاشِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ قَامَ فَخَرَجَ إلَى الْحُجْرَةِ فَقَلَّبَ فِي أُفُقِ السَّمَاء وَجْهَهُ، ثُمَّ قَالَ: «نَامَتْ الْعُيُونُ، وَغَارَتْ النُّجُومُ، وَاَللَّهُ حَيٌّ قَيُّومٌ ثُمَّ عَمَدَ إلَى قِرْبَةٍ فِي جَانِبِ الْحُجْرَةِ فَحَلَّ شِنَاقَهَا ثُمَّ تَوَضَّأَفَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ».
خَرَّجَهُ ابْنُ حَمَّادٍ الْحَافِظُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ التَّقَصِّي وَغَيْرِهِ.
وَمِنْ أَفْضَلِ مَا يَخْدُمُ الْمَرْءُ فِيهِ نَفْسَهُ الْعِبَادَاتُ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَتَّى يَكُونَ عَمَلُهَا كُلِّهَا لِوَجْهِ اللَّهِ، وَعَمَلُ شُرُوطِهَا وَأَسْبَابِهَا كُلِّهَا مِنْهُ؛ فَذَلِكَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ إذَا أَمْكَنَ.
وَقَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ: سَأَلْت عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَ: «كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ خَرَجَ».
وَمِنْ الرُّوَاةِ مَنْ قَالَ: إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ قَالَ الْإِمَامُ يَعْنِي الْإِقَامَةَ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه أغنى وأفقر، ووسّع وضيّق.
الثاني: في القناعة والرغبة.
الثالث: في العلم والجهل. قال الفضيل بن عياض: أجلُّ ما رزق الإنسان معرفة تدله على ربه، وعقل يدله على رشده.
وفي التفضيل وجهان:
أحدهما: أنه فضل السادة على العبيد، قاله ابن قتيبة ومن يرى أن التفضيل في المال.
الثاني: أنه فضل الأحرار بعضهم على بعض، قاله الجمهور.
{فما الذين فُضِّلُوا بِرادِّي رزقهم على ما ملكت أيمانُهم فهم فيه سواء} فيه وجهان:
أحدهما: أن عبيدهم لما لم يشركوهم في أموالهم لم يجز لهم أن يشاركوا الله تعالى في ملكه، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وفي هذا دليل على أن العبد لا يملك.
الثاني: أنهم وعبيدهم سواء في أن الله تعالى رزق جميعهم، وأنه لا يقدر أحد على رزق عبده إلا أن يرزقه الله تعالى إياه كما لا يقدر أن يرزق نفسه، حكاه ابن عيسى.
{أفبنعمة الله يجحدون} وفيه وجهان: أحدهما: بما أنعم الله عليهم من فضله ورزقه ينكرون.
الثاني: بما أنعم الله عليهم من حججه وهدايته يضلون.
قوله عز وجل: {والّلهُ جَعَل لكُم مِن أنفسِكم أزواجًا} فيه وجهان:
أحدهما: يعني جعل لكم من جنسكم مثلكم، فضرب المثل من أنفسكم، قاله ابن بحر. الثاني: يعني آدم خلق منه حوّاء، قاله الأكثرون. {وجعل لكم مِن أزواجكم بنين وحفدة} وفي الحفدة خمسة أقاويل:
أحدها: أنهم الأصهار أختان الرجل على بناته، قاله ابن مسعود وأبو الضحى، وسعيد بن جبير وإبراهيم، ومنه قول الشاعر:
ولو أن نفسي طاوعتني لأصبحت ** لها حَفَدٌ مما يُعَدّث كثيرُ

ولكنها نفس عليَّ أبيّة ** عَيُوفٌ لأَصهارِ للئام قَذور

الثاني: أنهم أولاد الأولاد، قاله ابن عباس.
الثالث: أنهم بنو امرأة الرجل من غيره، وهذا مروي عن ابن عباس أيضًا.
الرابع: أنهم الأعوان، قاله الحسن.
الخامس: أنهم الخدم، قاله مجاهد وقتادة وطاووس، ومنه قول جميل:
حفد الولائدُ حولهم وأسلمت ** بأكفهن أزِمّةَ الأجمال

وقال طرفة بن العبد:
يحفدون الضيف في أبياتهم ** كرمًا ذلك منهم غير ذل

وأصل الحفد الإسراع، والحفدة جمع حافد، والحافد هو المسرع في العمل، ومنه قولهم في القنوت وإليك نسعى ونحفد، أي نسرع إلى العمل بطاعتك، منه قول الراعي:
كلفت مجهولها نوقًا ثمانية ** إذا الحداة على أكسائها حفدوا

وذهب بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: {بنين وحفدة} البنين الصغار والحفدة الكبار. {ورزقكم من الطيبات} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: من الفيىء والغنيمة.
الثاني: من المباحات في البوادي.
الثالث: ما أوتيه عفوًا من غير طلب ولا تعب.
{أفبالباطِل يؤمنون} فيه وجهان:
أحدهما: بالأصنام.
الثاني: يجحدون البعث والجزاء.
{وبنعمة الله يكفرون} فيها وجهان:
أحدهما: بالإسلام.
الثاني: بما رزقهم الله تعالى من الحلال آفة من أصنامهم. حكاه الكلبي. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق}.
إخبار يراد به العبرة، وإنما هي قاعدة يبنى المثل عليها، والمثل هو أن المفضلين لا يصح منهم أن يساهموا مماليكهم فيما أعطوا حتى تستوي أحوالهم، فإذا كان هذا في البشر فكيف تنسبون أنتم أيها الكفرة إلى الله تعالى أنه يسمح بأن يشرك في ألوهيته الأوثان والأنصاب، وهم خلقه وغيرها مما عبد كالملائكة والأنبياء وهم عبيده وخلقه، هذا تأويل الطبري، وحكاه عن ابن عباس وحكي عنه أن الآية مشيرة إلى عيسى ابن مريم عليه السلام، قال المفسرون: هذه الآية كقوله تعالى: {ضرب لكم مثلًا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء} [الروم: 28]، ثم وقفهم على جحدهم نعمة الله في تنبيهه لهم على مثل هذا من مواطن النظر المؤدية إلى الإيمان، وقرأ الجمهور وحفص عن عاصم: {يجحدون} بالياء من تحت، وقرأ أبو بكر عن عاصم: {تجحدون} بالتاء، وهي قراءة أبي عبد الرحمن والأعرج بخلاف عنه، وهي على معنى قل لهم يا محمد. قال قتادة: لا يكون الجحد إلا بعد معرفة، وقوله: {والله جعل لكم} الآية، آية تعديد نعم، الأزواج الزوجات، ولا يترتب في هذه الآية الأنواع ولا غير ذلك، وقوله: {من أنفسكم} يحتمل أن يريد خلقته حواء من نفس آدم وجسمه، فمن حيث كانا مبتدأ الجميع ساغ حمل أمرهما على الجميع حتى صار الأمر كأن النساء خلقن من أنفس الرجال، وهذا قول قتادة، والأظهر عندي أن يريد بقوله: {من أنفسكم}، أي من نوعكم وعلى خلقتكم، كما قال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} [التوبة: 128]، وقوله: {وجعل لكم من أزواجكم بنين}، ظاهر في تعديد النعمة في الأبناء، واختلف الناس في قوله: {وحفدة} فقال ابن عباس: الحفدة أولاد البنين، وقال الحسن: هم بنوك وبنو بنيك، وقال ابن مسعود وأبو الضحى وإبراهيم وسعيد بن جبير: الحفدة الأصهار وهم قرابة الزوجة، وقال مجاهد: الحفدة الأنصار والأعوان والخدم، وحكى الزجاج أن الحفدة البنات في قول بعضهم، قال الزهراوي لأنهن خدم الأبوين لأن لفظة البنين لا تدل عليهن، ألا ترى أنهن ليس في قول الله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} [الكهف: 46]، وإنما الزينة في الذكور، وقال ابن عباس أيضًا: الحفدة أولاد زوجة الرجل من غيره، ولا خلاف أن معنى الحفد الخدمة والبر والمشي مسرعًا في الطاعة ومنه في القنوت: وإليك نسعى ونحفد، والحفدان خبب فوق المشي، ومنه قول الشاعر وهو جميل بن معمر: الكامل:
حفد الولائد بينهن وأسلمت ** بأكفهن أرمة الإجمال

ومنه قول الآخر: البسيط:
كلفت مجهولها نوقًا ثمانية ** إذا الحداة على أكسائها حفدوا

قال القاضي أبو محمد: وهذه الفرق التي ذكرت أقوالها إنما بنيت على أن كل أحد جعل له من زوجه بنون وحفدة، وهذا إنما هو في الغالب وعظم الناس، ويحتمل عندي أن قوله: {من أزواجكم} إنما هو على العموم والاشتراك، أي من أزواج البشر جعل الله لهم البنين، ومنهم جعل الخدمة فمن لم تكن له قط زوجة فقد جعل الله له حفدة، وحصل تحت النعمة، وأولئك الحفدة هم من الأزواج، وهكذا تترتب النعمة التي تشمل جميع العالم، وتستقيم لفظة الحفدة على مجراها في اللغة، إذ البشر بجملتهم لا يستغني أحد منهم عن حفدة، وقالت فرقة: الحفدة هم البنون.